Life Style

د. سارة أحمد تعود بذكرياتها في عيد المعلم الى أجندة الزمن الجميل.

كانت الهدية الدائمة التي اهديها لمعلماتي في المرحلة الابتدائية هي قطعة قماش. دوما كنت احزن عندما تبدء والدتي بتحضير هدايا عيد المعلم. اشعر بخجل شديد غير مبرر لانني اريد ان اهديهم شي اكبر. في الصف الرابع ابتدائي اصبح صوتي اعلى وتكونت لي شخصية تناقش وتحاور. فعندما صار عيد المعلم، و بدأت امي بقص قطعه من “طوّل” القماش الذي احضره أبي من “الأورزدي” وهو لمن لا يعرف سوق قديم في العراق. قدمت امي الهدية لي وقالت: “هاچ بعد شتريدين، هاي هدية ست سميرة.” وقفت احتجاجا وقلت لها: “ماريد اخذ قماش. هسه يضحكون عليه بالصف. اريد شي حلو مثل وجه ست سميرة.” ست سميرة كانت جميلة جدا، وشعرها احمر كالشمس ساعة الغروب، وتضعك مكياج مثل لعبة الباربي. لهذا كنت اريد ان اعطيها هديه مميزة.

“هذا الموجود. ماعندي غير شي، مالحك اجيب اي هديه.” ردا على امتعاضي واحتجاجي. شعر أبي بالسوء و سالني عن خياراتي، وبعد حوار طويل غير منطقي بما اريد ان اقتنيه، اقنعني ابي بفكرة كانت جذابة جدا، واكيد اجمل من قماش.

كان لدينا “ڤاژة” بالعربي زهرية، او مزهرية من النحاس الخالص. جائت ابي كهديه، ولكنها ولعدم استخدامها اصبحت سوداء. “لتخافين بابه هاي جديدة بالصندوگ بس مسحيها بالبراس وتصير تلمع.”

عجبتني الفكرة بعد ان اقنعتني أمي بان أضيف للهدية “حمرة حمراء” تليق بوجه ست سميرة. “ست سميرة تموت على لون الاحمر.”مرددة. لمدة اربع ساعات بدون توقف وضعت الزهرية بين يدي ودعكتها دعكا مبرحا حتى اصبحت ذهبية لماعة. كل مسحة كانت عيني تبرق قليلا حتى انهيت المهمة. غلفت الهديه بجريدة ولسقتها بطريقة مبهرة. ثم اخذت احمر الشفاه غلفته و لسقته على اعلى الهدية. وكتبت رسالة حب وقصيدة تظهر مدى حبي واهتمامي.

صباح اليوم التالي استيقضت بدون منبه، لبست ملابس المدرسة، صففت شعري، حملت حقيبتي، اخذت الهديه التي كانت اكبر حجما مني، وخرجت من باب المطبخ كانني في الطريق الى مدينة السعادة شامخة مستنشقة الهواء كانني اتلذذ بالحياة للمرة الاولى. “سارة وين رايحة بعد وكت انتظري فرح وسعد ومصطفى وروحوا كلكم سوى.” امي منادية من بعيد لتضع عائق اخر في طريقي الى امنية حياتي الحاليه، اسعاد معلمتي.

وصلنا الى المدرسة، و قمنا بالطقوس اليوميه. الاصطفاف اليومي، “وطن مدا على الافق جناحه…. بوركت ارض الفراتين وطن…. عبقري المجد بعزم و سماحا.” الجميع ينشد وانا في عالم اخر “يلة يلة اريد اروح انطي احسن هديه بالعالم.”. انتهى الاصطفاف واخيرا ذهبنا الى الصف وبدت المسافة طويله جدا. تسلقت السلالم، ذهبت الى اليمين، ثم اول شعبه الى الشمال. المرحله الرابعه، الشعبه ج. دخلت. كل طالب في “رحلته” مقعده الدراسي. دق جرس الدرس الاول واذا بست سميرة تدخل مبتسمة متبخترة في عيدها وتقول، “قيام”. نقف ونصرخ باعلى صوت، “عاش القائد صدام.” ولكني كنت اريد ان اقول “صباح الخير ست سميرة، جبتلچ هدية تخبل.”

بدأ الاحتفال، وكل من الطلاب يقدم هديته المميزة. كانت تفتح الهدايا وتشكر الطلاب وتنبهر. وصل دوري، اقف متحمسة، و قلقة، يقفز قلبي مئة قفزة، والفراشات ترفرف في معدتي. فتحت هديتي، وهنا بدأت الصدمة. نظرة خيبة الامل التي علت وجهها لم استطع تفسيرها، ثم قالت لي، “هاي ليش هيچي سارة مو انتو دائما هداياكم حلوة.”. واذا لم تكن هذه الجملة كافيه فبعد فتح جميع الهدايا شكرتنا مرة ثانيه جميعا وقالت: “طبعا كل الهدايا حلوة. بس سارة انتظر هديه احسن منچ. واحلى هدية جانت هديه زيد.” تفطر قلبي الصغير في تلك اللحظة الى ثلاثه عشر قطعة بعدد الساعات التي عددتها لكي اعطي ست سميرة الهديه.

التفتت الى زيد ونظرت له نظرة لا تتصف بأي وصف نبيل. فقد اخذ الموقع الذي عملت جاهده للوصول اليه. والادهى والامر ان هديه زيد كانت قطعة قماش بائسة لونها قهوائي لا يناسب ست سميرة ابدا، “اصلا هذا القماش عبالك مال مخدة الخبز بازة. مامه تگول البازة بس يصير بجايم.” بصوت خافت قلت لنفسي. التفت الى فرح صديقتي المقربة بنظرة حزينة “شفتي. كتلج لتوديلها هديه.” قالت عارفة معنى نظراتي.

رجعت الى المنزل اجر اذيال الخيبة والهزيمة. “ها عجبتها لهديه.” بدون ان انظر الى الامام، حقيبتي الزرقاء على الارض، قلت: “أريد اودي قطعة القماش لست سميرة اذا بعدها موجودة. مقرت القصيده مالتي ومعجبتها الڤازة وكالت هاي الحمرة مو زينة.” فقالت أمي: “ميخالف مامه، قف للمعلم وشنو… بس انت متسمعين كلام. بس هسه عرفتي شتحب.” اجبت بصوت خافت وانا في الطريق الى غرفتي: “كاد المعلم ان يكون رسولا. انتظر بابا ماريد اتغدة، حخلص الواجب اول.”

احتجاجي وثورتي وتحقيق مطالبي لم يكن الا تجربة ديمقراطية استطعت الفوز بها بسبب لطافة والدي و مرونة والدتي في تلك اللحظة بالتحديد. لكن الواقع بعد تحقيق مطالبي كان صادما.

ذهب من بالي عيد المعلم الى ان رايت منشور تذكيري في الانستغرام. وفي تلك اللحظة اتت عاصفة من الذكريات. ست سميرة الاميرة اين ماكنتي كل عام وانت بخير، احبك حتى وان لم تحبي حمرتي الحمراء والڤازة اللماعة.

You may also like...